فصل: الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية إلى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية إلى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم:

قال ابن العميد وفي الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام والجزيرة فملكها وأثخن في بلاد الروم وهدم كنائس النصارى واحتمل ما فيها من الذهب والفضة والآنية حتى نقل الرخام الذي كان بالمباني وحمل أهل الرها على رأي اليعقوبية بإغراء طبيب منهم كان عنده فرجعوا إليه وكانوا ملكية وفي سابعة الهجرة بعث عساكر الفرس ومقدمهم مرزبانه شهريار فدوخ بلاد الروم وحاصر القسطنطينية ثم تغير له فكتب إلى المرازبة معه بالقبض عليه واتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى شهريار فانتقض ومن معه وطلبوا هرقل في المدد فخرج معهم بنفسه في ثلثمائة ألف من الروم وأربعين ألفا من الخزر الذين هم التركمان وسار إلى بلاد الشام والجزيرة وافتتح مدائنهم مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل وفيما افتتح أرمينية ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس وقائدهم المرزبان فانهزموا وقتل وأجفل أبرويز عن المدائن واستولى هرقل على ذخائر ملكهم وكان شيرويه بن كسرى محبوسا فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه وعقدوا مع هرقل الصلح ورجع هرقل إلى آمد بعد أن ولى أخاه تداوس على الجزيرة والشام ثم سار إلى الرها ورد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الذي أكرهوا على تركه وأقام بها سنة كاملة.
وعن غير ابن العميد: وفي آخر سنة ست من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام ونصه على ما وقع في صحيح البخاري: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من ابتع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}».
فلما بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من قريش وسألهم عن أقربهم نسبا منه فأشاروا إلى أبي سفيان بن حرب فقال لهم: إني سائله عن شأن هذا الرجل فاستمعوا ما يقوله ثم سأل أبا سفيان عن أحوال تجب أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو ينزه عنها وكان هرقل عارفا بذلك فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله من ذلك فرأى هرقل أنه نبي لا محالة مع أنه كان حزاء ينظر في علم النجوم وكان عنده علم من القرآن الكائن قبل الملة بظهور الملة والعرب فاستيقن بنبوته وصحة ما يدعو إليه حسبما ذكره البخاري في صحيحه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بن أبي شمر الغساني ملك غسان بالبلقاء من أرض الشام وعامل قيصر على العرب مع شجاع بن وهب الأسدي يدعوه إلى الإسلام قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق يهيئ النزل لقيصر حين جاء من حمص إلى إيلياء فشغل عني إلى أن دعاني ذات بوم وقرأ كتابي وقال: من ينتزع مني ملكي أنا سائر إليه ولو كان باليمن ثم أمر بالخيول تنعل وكتب بالخبر إلى قيصر فنهاه عن المسير ثم أمرني بالانصراف وزودني بمائة دينار. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من الهجرة جيشه إلى الشام وهي غزوة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب فجعفر فعبد الله بن رواحة فانتهوا إلى معان من أرض الشام ونزل هرقل صاب من أرض البلقا في مائة ألف من الروم وانضمت إليه جموع جذام والغيد وبهرام وبلى وعلى بلى مالك بن زافلة ثم زحف المسلمون إلى البلقا ولقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب على مؤتة فكان التمحيص والشهادة واستشهد زيد ثم جعفر ثم عبد الله وانصرف خالد بن الوليد بالناس فقدموا المدينة ووجد النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل من المسلمين ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده.
ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم فكانت غزوة تبوك فبلغ تبوك وأتاه صاحب أيلة وجرباء وأذرح وأعطوا الجزية وصاحب أيلة يومئذ بن رؤبة بن نفاثة أحد بطون جذام وأهدى له بغلة بيضاء وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل وكان بها أكيدر بن عبد الملك فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة فأسروه وقتلوا أخاه وجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية ورده إلى قريته وأقام بتبوك بعض عشرة ليلة وقفل إلى المدينة وبلغ خبر يوحنا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته اهـ من غير ابن العميد.
ورجعنا إلى كلامه قال: وفي الثالثة عشرة من الهجرة جهز أبو بكر العساكر من المسلمين العرب لفتح الشام: عمرو بن العاص لفلسطين ويزيد بن أبي سفيان لحمص وشرحبيل بن حسنة للبلقاء وقائدهم أبو عبيدة بن الجراح وبعث خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة فلقيه ماهاب البطريق في جموع الروم فهزمهم خالد إلى دمشق ونزل مرجع الصفراء ثم أخذوا عليه الطريق ونازلوه ثانية فتجهز إلى جهة المسلمين وقتل ابنه وبعث أبو بكر خالد بن الوليد بالعراق يسير إلى الشام أميرا على المسلمين فسار ونزل معهم دمشق وفتحوها كما نذكر في الفتوحات وزحف عمرو بن العاص إلى غيره ولقيته الروم هنالك فهزمهم وتحصنوا ببيت المقدس وقيسارية.
ثم زحف عساكر الروم من كل جانب في مائتين وأربعين ألفا والمسلمون في بضع وثلاثين ألفا والتقوا باليرموك فانهزم الروم وقتل منهم من لا يحصى وذلك في خامسة عشر من الهجرة ثم تتابعت عليهم الهزائم ونازل أبو عبيدة وخالد بن الوليد حمص فصالحوه على الجزية ثم سار خالد إلى قنسرين فلقيه منياس البطريق في جموع الروم فهزمهم وقتل منهم خلق كثير وفتح قنسرين ودوخ البلاد ثم سار عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فحاصروا مدينة الرملة وجاء عمر بن الخطاب إلى الشام فعقد لأهل الرملة الصلح على الجزية وبعث عمرا وشرحبيل لحصار بيت المقدس فحاصروها ولما أجهدهم البلاء طلبوا الصلح على أن يكون أمانهم من عمر نفسه فحضر عندهم وكتب أمانهم ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب لأهل إيلياء إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم ونسائهم وجميع كنائسهم لا تسكن ولا تهدم اهـ.
ودخل عمر بن الخطاب بيت المقدس وجاء كنيسة القمامة فجلس في صحنها وحان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة فقال له: صل موضعك فامتنع وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا فلما قضى صلاته قال للبترك لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها ثم قال للبترك أرني موضعا أبني فيه مسجدا فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب ووجد عليها دما كثيرا فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه في ثوبه واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه وأمر ببناء المسجد ثم بعث عمرو بن العاص إلى مصر فحاصرها وأمده بالزبير بن العوام في أربعة آلاف من المسلمين فصالحهم المقوقس على الجزية ثم سار إلى الإسكندرية فحاصرها وافتتحها.
وفي السابعة عشر من الهجرة جاء ملك الروم إلى حمص في جموع النصرانية وبها أبو عبيدة فهزمهم واستلحمهم ورجع هرقل إلى أنطاكية وقد استكمل المسلمون فتح فلسطين وطبرية والساحل كله واستنفر العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وقدم عليهم ماهاب البطريق وبعثه للقاء العرب وكتب إلى عامله على دمشق منصور بن سرحون أن يمده بالأموال وكان يحقد عليه نكبته من قبل واستصفى ماله حين أفرج الفرج عن حصاره بالقسطنطينية لأول ولايته فاعتذر العامل للبطريق عن المال وهون عليه أمر العرب فسار من دمشق للقائهم ونازلهم بجابية الخولان ثم اتبعه العامل ببعض مال جهزه للعساكر وجاء العسكر ليلا وأوقد المشاعل وضرب الطبول ونفخ البوقان فظنهم الروم عسكر العرب جاءوا من خلفهم وأنهم أحيط بهم فأجفلوا وتساقطوا في الوادي وذهبوا طوائف إلى دمشق وغيرها من ممالك الروم ولحق ماهاب بطور سيناء وترهب إلى أن هلك واتبع المسلمون الفل مع منصور إلى دمشق وحاصروها ستة أشهر فرقوا على أبوابها ثم طلب منصور العامل الأمان للروم من خالد فأمنه ودخل المدينة من الباب الشرقي وتسامع الروم الذين بسائر الأبواب فهربوا وتركوها ودخل منها الأمراء الآخرون عنوة ومنصور ينادي بأمان خالد فاختلف المسلمون قليلا ثم اتفقوا على أمان الروم الذين كانوا بالإسكندرية بعد أن افتتحها عمرو بن العاص ركبوا إليه البحر ووافوه بها.
ثم هلك هرقل لإحدى وعشرين من الهجرة ولإحدى وثلاثين من ملكه فملك على الروم بقسطنطينية قسطنطين وقتله بعض نساء أبيه لستة أشهر من ملكه وملك أخوه هرقل بن هرقل ثم تشاءم به الروم فخلعوه وقتلوه وملكوا عليهم قسنطينوس بن قسطنطين فملك ست عشرة سنة ومات لسابعة وثلاثين من الهجرة وفي أيامه غزا معاوية بلاد الروم سنة أربع وعشرين وهو يومئذ أمير على الشام في خلافة عمر بن الخطاب فدوخ البلاد وفتح منها مدنا كثيرة وقفل ثم أغزى عساكر المسلمين إلى قبرص في البحر ففتح منها حصونا وضرب الجزية على أهلها سنة سبع وعشرين وكان عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان فرجع بعد ثلاث عشرة من مغيبه وكان ولاه هرقل في أول الهجرة كما قدمنا وملك الفرس مصر والإسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل ثم غاب عن الكرسي عندما ملك الفرس وقدموا الملكية وبقي غائبا ثلاث عشرة سنة أيام الفرس عشرة وثلاث من ملكة المسلمين ثم أمنه عمرو بن العاص فعاد ثم مات في تاسعة وثلاثين من الهجرة وخلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع عشرة سنة.
ولما هلك قستطينوس بن قسطنطين في سابعة وثلاثين من الهجرة كما قلناه ملك على الروم في القسطنطينية ابنه يوطيانوس فمكث إثني عشرة سنة وتوفي سنة خمسين فملك بعد طيباريوس ومكث سبع سنين وفي أيامه غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في عساكر المسلمين وحاصرها مدة ثم أفرج عنها واستشهد أبو أيوب الأنصاري في حصارها ودفن في ساحتها ولما قفل عنها توعدهم بتعطيل كنائسهم بالشام إن تعرضوا لقبره.
ثم قتل طيباريوس قيصر سنة ثمان وخمسين وملك أوغسطس قيصر وفي أيام ولايته مات أغاثوا بطرك اليعاقبة القبط بإسكندرية وقدم مكانه يوحنا ثم قتل أوغسطس قيصر ذبحه بعض عبيده سنة وملك ابنه أصطفانيوس وكان لعهد عبد الملك بن مروان وفي سنة خمس وستين من الهجرة زاد عبد الملك في المسجد الأقصى وأدخل الصخرة في الحرم ثم خلع أصطفانيوس ثم ملك بعده لاون ومات سنة ثمان وسبعين وملك طيباريوس سبع سنين ومات ست وثمانين فملك سيطانوس وذلك في أيام الوليد بن عبد الملك وهو الذي بنى مسجد بني أمية بدمشق يقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعمائة عشر ألف دينار وكان فيه من جملة الفعلة إثنا عشر ألف مرخم ويقال كانت فيه ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل فكانت تغشى عيون الناظرين وتفتن المسلمين فأزالها عمر بن عبد العزيز وردها إلى بيت المال وكان الوليد لما اعتزم على الزيادة في المسجد أمر بهدم كنيسة النصارى وكانت ملاصقة للمسجد فأدخلها فيه وهي معروفة عندهم بكنيسة مار يوحنا ويقال إن عبد الملك طلبهم في ذلك فامتنعوا وإن الوليد بذل لهم فيها أربعين ألف دينار فلم يقبلوا فهدمها ولم يعطهم شيئا وشكوا أمرها إلى عمر بن عبد العزيز وجاءوه بكتاب خالد بن الوليد وعهده أن لا تخرب كنائسهم ولا تسكن فراودهم على أخد الأربعين ألفا التي بذل لهم الوليد فأبوا فأمر أن ترد عليهم فعظم ذلك على الناس وكان قاضيه أبو داريس الخولاني فقال لهم: تتركون هذه الكنيسة في الكنائس التي في العنوة في المدينة وإلا هدمناها فأذعنوا وكتب لهم عمر الأمان على ما بقي من كنائسهم.
وفي سنة ست وسبعين بعث كاتب الخراج إلى سليمان بن عبد الملك بأن مقياس حلوان بطل فأمر ببناء مقياس في الجزيرة بني الفسطاط والجزيرة فهو لهذا العهد.
وفي سنة إحدى ومائة من الهجرة ملك تداوس على الروم سنة ونصفا ثم ملك بعده لاون أربعا وعشرين سنة وبعده ابنه قسطنطين وفي سنة ثلاث عشرة ومائة غزا هشام بن عبد الملك الصائفة اليسرى وأخوه سلمان الصائفة اليمنى ولقيهم قسطنطين في جموع الروم فانهزموا وأخذ أسيرا ثم أطلقوه بعد وفي أيام مروان بن محمد وولاية موسى بن نصير لقي النصارى بالإسكندرية ومصر شدة وأخذوا بغرامة المال واعتقل بطرك الإسكندرية أبي ميخايل وطلب بجملة من المال فبذلوا موجودهم وانطلقوا يستسعون ما يحصل لهم من الصدقة وبلغ ملك النوبة ما حل بهم فزحف في مائة ألف من العساكر إلى مصر فخرج إليه عامل مصر فرجع من غير قتال وفي أيام هشام ردت كنائس الملكية من أيدي اليعاقبة وولي عليهم بطرك قريبا من مائة سنة كانت رياسة البطرك فيها لليعاقبة وكانوا يبعثون الأساقفة للنواحي ثم صارت النوبة من ورائهم للحبشة يعاقبه.
ثم ملك بالقسطنطينة رجل من غير بيت الملك اسمه جرجس فبقي أيام السفاح والمنصور وأمره مضطرب ثم مات وملك بعده قسطنطين بن لاون وبنى المدن وأسكنها أهل أرمينية وغيرها ثم مات قسطنطين بن لاون وملك ابنه لاون ثم هلك لاون وملك بعده نقفور.
وفي سنة سبع وثمانين ومائة غزا الرشيد هرقلة ودوخ جهاتها وصالحه نقفور ملك الروم على الجزية فرجع إلى الرقة وأقام شاتيا وقد كلب البرد وأمن نقفور من رجوعهم فانتقض فعاد إليه الرشيد وأناخ عليها حتى قرر الموادعة والجزية عليه ورجع ودخلت عساكر الصائفة بعدها من درب الصفصاق فدوخوا أرض الروم وجمع نقفور ولقيهم فكانت عليه هزيمة شنعاء قتل فيها أربعون ألفا ونجا نقفور جريحا وفي سنة تسعين ومائة دخل الرشيد بالصائفة إلى بلاد الروم في مائة وخمسة وثلاثين ألفا سوى المطوعة وبث السرايا في الجهات وأناخ على هرقلة ففتحها وبلغ سبيها ستة عشر ألفا وبعث نقفور بالجزية فقبل وشرط عليهم أن لا يعمر هرقلة.
وهلك نقفور في خلافة الأمين وولي ابنه أستبران قيصر وغزا المأمون سنة خمس عشرة ومائتين إلى بلاد الروم ففتح حصونا عدة ورجع إلى دمشق ثم بلغه أن ملك الروم غزا طرسوس والمصيصة وقتل منها نحوا من ألف وستمائة رجل فرجع وأناخ على أنطواغوا حتى فتحها صلحا وبعث المعتصم ففتح ثلاثين من حصون الروم وبعث يحيى بن أكثم بالعساكر فدوخ أرضهم ورجع المأمون إلى دمشق ثم دخل بلاد الروم وأناخ على مدينة لؤلؤة مائة يوم وجهز إليها العساكر مع عجيف مولاه ورجع ملك الروم فنازل عجيفا فأمده المأمون بالعسكر فرحل عنه ملك الروم وافتتح لؤلؤة صلحا ثم سار المأمون إلى بلاد الروم ففتح سلعوس والبروة وبعث ابنه العباس بالعساكر فدوخ أرضهم وبنى مدينة الطولية ميلا في ميل وجعل لها أربعة أبواب ثم دخل غازيا بلاد الروم ومات في غزاته سنة ثمان عشرة ومائتين وفي أيامه غلب قسطنطين على مملكة الروم وطرد ابن نفقور عنها وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين فتح المعتصم عمورية وقصتها معروفة في أخباره اهـ كلام ابن العميد وأغفلنا من كلامه أخبار البطاركة من لدن فتح الإسكندرية لأنا رأيناه مستغنى عنه وقد صارت بطركيتهم الكبرى التي كانت بالإسكندرية بمدينة رومة وهي هنالك للملكية ويسمونه البابا ومعناه أبوا الآباء وبقي ببلاد مصر بطرك اليعاقبة على المعاهدين من النصارى بتلك الجهات وعلى ملوك النوبة والحبشة.
وأما المسعودي فذكر ترتيب هؤلاء القياصرة من بعد الهجرة والفتح كما ذكره ابن العميد قال: والمشهور بين الناس أن الهجرة وأيام الشيخين كان ملك الروم فيها لهرقل قال: وفي كتب أهل السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق ثم كان بعده ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر ثم هرقل بن قيصر أيام عمر وعليه كان الفتح وهو المخرج من الشام أيام أبي عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فاستقر بالقسطنطينية وبعده مورق بن هرقل أيام عثمان وبعده مورق بن مورق أيام علي ومعاوية وبعده قلفط بن مورق آخر أيام معاوية وأيام يزيد ومروان بن الحكم وكان معاوية يراسله ويراسل أباه مورق وكانت تختلف إليه علامة نياق وبشره مورق بالملك وأخبره أن عثمان يقتل وأن الأمر يرجع إلى معاوية وهادى ابنه قلفط حين سار إلى حرب علي رضي الله عنه ثم نزلت جيوش معاوية مع ابنه الزيد قسطنطينية وهلك عليها في حصاره أبو أيوب الأنصاري ثم ملك من بعد قلفط بن مروان لاون بن قلفط أيام عبد الملك بن مروان وبعده جيرون بن لاون أيام الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز ثم غشيهم المسلمون في ديارهم وغزوهم في البر والبحر ونازل مسلمة القسطنطينية واضطرب ملك الروم وملك عليهم جرجيس بن مرعش وملك تسع عشرة سنة ولم يكن من بيت الملك ولم يزل أمرهم مضطربا إلى أن ملك عليهم قسطنطين بن ألبون وكانت أمه مستبدة عليه لمكان صغره ومن بعده نقفور بن استيراق أيام الرشيد وكانت له معه حروب وغزاه الرشيد فأعطاه الانقياد ودفع إليه الجزية ثم نقض العهد فتجهز الرشيد إلى غزوه ونزل هرقلة وافتتحها سنة تسعين ومائة وكانت من أعظم مدائن الروم وانقاد نقفور بعد ذلك وحمل الشروط وملك بعده استيراق بن نقفور أيام الأمين وغلب عليه قسطنطين ابن قلفط وملك أيام المأمون وبعده نوفيل أيام المعتصم واسترد زبطره ونازل عمورية وافتتحها وقتل من كان بها من أمم النصرانية ثم ملك ميخايل بن نوفيل أيام الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين ثم تنازع الروم وملكوا عليهم نوفيل بن ميخايل ثم غلب على الملك بسيل الصقلبي ولم يكن من بيت المال وكان ملكه أيام المعتز والمهتدي وبعضا من أيام المعتمد ومن بعده إليون بن بسيل بقية أيام المعتمد وصدرا من أيام المعتضد ومن بعده الإسكندروس ونقموا سيرته فخلعوه وملكوا أخاه لاوي بن إليون بقية أيام المعتضد والمكتفي وصدرا من أيام المقتدر ثم هلك وملك ابنه قسطنطين صغيرا وقام بأمره أرمنوس بطريق البحر وزوجه ابنته ويسمى الدمستق وهو الذي كان يحارب سيف الدولة ملك الشام من بني حمدان واتصل ذلك أيام المقتدر والقاهر والراضي والمتقي وافترق أمر الروم وأقام بعض بطارقتهم ويعرق أستفانس في بعض النواحي وخوطب بالملك أرمنوس بطركا بكرسي القسطنطينية إلى هنا انتهى كلام المسعودي وقال عقبة: فجميع سني الروم المتنصرة من أيام قسطنطين بن هلانة إلى عصرنا وهو حدود الثلثمائة والثلاثين للهجرة خمسمائة سنة وسبع سنين وعدد ملوكهم أحد وأربعون ملكا قال: فيكون ملكهم إلى الهجرة مائة وخمسا وسبعين سنة اهـ كلام المسعودي.
وفي تاريخ ابن الأثير: إن أرمانوس لما مات ترك ولدين صغيرين وكان الدمستق على عهده قوقاش وملك ملطية من يد المسلمين بالأمان سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة وكان أمر الثغور لسيف الدولة بن حمدان وملك قوقاش مرعش وعرزرية وحصونهما وأوقع بجابية طرسوس مرارا وسار سيف الدولة في بلادهم فبلغ خرشنة وصارخة ودوخ البلاد وفتح حصونا عدة ثم رجع ثم ولى أرمانوس نقفور دمستقا واسم الدمستق عندهم على من يلي شرقي الخليج حيث ملك ابن عثمان لهذا العهد فأقام نقفور دمستقا وهلك أرمانوس وترك ولدين صغيرين وكان نفقور غائبا في بلاد المسلمين فلما رجع اجتمع إليه زعماء الروم وقدموه لتدبير أمر الولدين وألبسوه التاج وسار إلى بلاد المسلمين سنة إحدى وخمسين وثلثمائة إلى حلب فهزم سيف الدولة وملك البلد وحاصر القلعة فامتنعت عليه وقتل ابن أخت الملك في حصارها فقتل جميع الأسرى الذين عنده.
ثم بنى سنة ست وخمسين مدينة بقيسارية ليجلب منها على بلاد الإسلام فخافه أهل طرسوس واستأمنوا إليه فسار إليهم وملكها بالأمان وملك المصيصة عنوة ثم بعث أخاه في العساكر سنة تسع وخمسين إلى حلب فملكها وهرب أبو المعالي بن سيف الدولة إلى البرية وصالحه مرعويه بعد أن امتنع بالقلعة ورجع ثم إن أم الملكين إبني أرمانوس اللذين كانا مكفولين له استوحشت منه وداخلت في قتله ابن الشميشق فقتله سنة ستين وقام ابن أرمانوس الأكبر وهو بسيل بتدبير ملكه وجعل ابن الشميشق دمستقا وقام على الأورق أخي نقفور وعلى ابنه ورديس بن لاون واعتقلهما وسار إلى الرها وميافارقين وعاث في نواحيهما وصانعه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل بالمال فرجع ثم خرج سنة اثنتين وستين فبعث أبو تغلب ابن عمه أبا عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره وأطلقه وكان لأم بسيل أخ قام بوزارتها فتحيل في قتل ابن الشميشق بالسم.
ثم ولى بسيل بن أرمانوس سقلاروس دمستقا فعصى عليه سنة خمس وستين وطلب الملك لنفسه وغلبه بسيل ثم خرج على بسيل ورد بن منير من عظماء البطارقة واستجاش بأبي تغلب بن حمدان وملكوا الأطراف وهزم عساكر بسيل مرة بعد مرة فأطلق ورديس لاون وهو ابن أخي نقفور من معقله وبعثه في العساكر لقتاله فهزمه ورديس ولحق ورد بن منير بميافارقين صريخا بعضد الدولة وراسله بسيل في شأنه فجنح عضد الدولة إلى بسيل وقبض على ورديس واعتقله ببغداد ثم أطلقه ابنه صمصام الدولة لخمس سنين من اعتقاله وشرط عليه إطلاق أسرى المسلمين والنزول عن حصون عدة من معاقل للروم وأن لا يغير على بلاد الإسلام وسار فاستولى على ملطية ومضى إلى القسطنطينية فحاصرها وقتل ورديس بن لاون واستنجدا بسيل بملك الروم وزوجه أخته ثم صالح وردا على ما بيده ثم هلك ورد بعد ذلك بقليل واستولى بسيل على أمره وسار إلى قتال البلغار فهزمهم وملك بلادهم وعاث فيها أربعين سنة واستمده صاحب حلب أبو الفضائل بن سيف الدولة فلما زحف إليه منجوتكين صاحب دمشق من قبل الخليفة بمصر سنة إحدى وثمانين فجاء بسيل لمدده وهزمه منجوتكين ورجع مهزوما ورجع منجوتكين إلى دمشق ثم عاود الحصار فجاء بسيل صريخا لأبي الفضائل فأجفل منجوتكين من مكانه على حلب وسار إلى حمص وشيزر فملكها وحاصر طرابلس وصالحه ابن مروان على ديار بكر ثم بعث الدوقس الدمستق إلى أمامه فبعث إليه صاحب مصر أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان في العساكر فهزمه وقتله.
ثم هلك بسيل سنة عشر وأربعمائة لنيف وسبعين من ملكه بعده أخوه قسطنطين وأقام تسعا ثم هلك عن ثلاث بنات فملك الروم عليهم الكبرى منهم وأقام بأمرها ابن خالهم أرمانوس وتزوجت به فاستولى على مملكة الروم وكان خاله ميخاييل متحكما في دولته ومداخلا لأهله فمالت إليه الملكة وحملته على قتل أرمانوس فقتله واستولى على الأمر ثم أصابه الصرع وأذاه فعمد لابن أخته واسمه ميخاييل أيضا وكان أرمانوس قد خرج سنة إحدى وعشرين إلى حلب في ثلاثة آلاف مقاتل ثم خار عن اللقاء فاضطرب ورجع واتبعه العرب فنهبوا عساكره وكان معه ابن الدوقس من عظماء البطارقة فارتاب وقبض عليه وخرج سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في جموع الروم فملك الرها وسروج وهزم عساكر ابن مروان.
ولما ملك ميخاييل سار إلى بلاد الإسلام فلقيه الدريري صاحب الشام من قبل العلوية فهزمه واقتصر الروم بعدها عن الخروج إلى بلاد الإسلام وملك ميخاييل ابن أخته كما قلناه وقبض على أخواله وقرابتهم وأحسن السيرة في المملكة ثم طلب زوجته في الخلع فأبت فنفاها إلى بعض الجزائر واستولى على المملكة سنة ثلاث وثلاثين وأربعائة ونكر عليه البترك ما وقع فيه فهم بقتله ودخل بعض حاشيته في ذلك ونمى الخبر إلى البترك فنادى في النصرانية بخلعه وحاصره في قصره واستدعى الملكة التي خلعها ميخاييل من مكانها وأعادوها إلى الملك فنفت ميخاييل كما نفاها أولا.
ثم اتفق البترك والروم على خلع الملكة بنت قسطنطين وملكوا أختها الأخرى تودورة وسلموا ميخاييل لها ثم وقعت الفتنة بين شيعة تودورة وشيعة ميخاييل واتصلت وطلب الروم أن يملكوا عليهم من يمحو هذه الفتنة وأقرعوا على المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين منهم فملكوه أمرهم وتزوج بالملكة الصغيرة تودورة وجعلت أختها الكبرى على ما بذلته لها وذلك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي قسطنطين سنة ست وأربعين وملك على الروم أرمانوس وقارن ذلك بظهور الدولة السلجوقية واسيتلاء طغرلبك على بغداد فردد الغزو إليهم من ناحية أذربيجان ثم سار ابنه الملك ألبأرسلان وملك مدنا من بلاد الكرخ منها مدينة آي وأثخن في بلادهم ثم سار ملك الروم إلى منبج وهزم ابن مرداس وابن حسان وجموع العرب فسار ألبأرسلان إليه سنة ثلاث وستين وخرج أرمانوس في مائتي ألف من الروم والدوس والكرخ ونزل على نواحي أرمينية فزحف إليه ألبأرسلان من أذربيجان فهزمه وحصل في أسره ثم فاداه على مال يعطيه وأجروه عليه وعقد معه صلحا وكان أرمانوس لما انهزم وثب ميخاييل بعده على مملكة الروم فلما انطلق من الأسر ورجع دفعه ميخاييل عن الملك والتزم أحكام الصلح الذي عقده مع ألبأرسلان وترهب أرمانوس إلى هنا انتهى كلام ابن الأثير.
ثم استفحل ملك الإفرنج بعد ذلك واستبدوا بملك رومة وما وراءها وكان الروم لما أخذوا بدين النصرانية حملوا عليه الأمم المجاورين لهم طوعا وكرها فدخل فيه طوائف من الأمم الأرمن وقد تقدم نسبهم إلى ناحور أخي إبراهيم عليه السلام وبلدهم أرمينية وقاعدتها خلاط ومنهم الكرج وهم من شعوب الروم وبلادهم الخزر ما بين أرمينية والقسطنطينية شمالا في جبال ممتنعة ومنه الجركس في جبال بالعدوة والشرقية من بحر نيطش وهم من شعوب الترك ومنهم الروس في جزائر ببحر نيطش وفي عدوته الشمالية ومنه البلغار نسبة إلى مدينة لهم في العدوة الشمالية أيضا من بحر نيطش ومنهم البرجان أمة كبيرة متوغلون في الشمال لا تعرف أخبارهم لبعدها وهؤلاء كلهم من شعوب الترك.
وأعظم من أخذ به من الأمم الإفرنج وقاعدة بلادهم فرنجة ويقولون فرنسة بالسين وملكهم الفرنسيس وهم في بسائط على عدوة البحر الرومي من شماليه وجزيرة الأندلس من ورائهم في المغرب تفصل بينهم وبينها جبال متوعرة ذات مسالك ضيقة يسمونها ألبون وساكنها الجلالقة من شعوب الإفرنج وهؤلاء فرنسة أعظم ملوك الإفرنجة بالعدوة الشمالية من هذا البحر واستولوا من الجزيرة البحرية منه على صقلية وقبرص وأقريطش وجنوة واستولوا أيضا على قطعة من بلاد الأندلس إلى برشلونة واستفحل ملكهم بعد القياصرة الأول.
ومن الأمم الإفرنجة البنادقة وبلادهم حفافي خليج يخرج من بحر من بحر الروم متضايقا إلى ناحية الشمال ومغربا بعض الشيء على سبعمائة ميل من البحر وهذا الخليج مقابل لخليج القسطنطينية وفي القرب منه وعلى ثمان مراحل من بلاده جنوة ومن ورائها مدينة رومة حاضرة الإفرنجة ومدينة ملكهم وبها كرسي البطرك الأكبر الذي يسمونه البابا ومن أمم الإفرنجة الجلالقة وبلادهم الأندلس وهؤلاء كلهم دخلوا في دين النصرانية تبعا للروم إلى من دخل فيه منهم من أمم السودان والحبشة والنوبة ومن كان على ملكة الروم من برابرة العدوة بالمغرب مثل نغزاوة وهوارة بأفريقية والمصامدة بالمغرب الأقصى واستفحل ملك الروم ودين النصرانية.
ولما جاء الله بالإسلام وغلب دينه وكانت مملكة الروم قد انتشرت في حفافي البحر الرومي من عدوتيه فانتزعوا منهم لأول أمرهم عدوته الجنوبية كلها من الشام ومصر وأفريقية والمغرب وأجازوا من خليج طنجة فملكوا الأندلس كلها من يد القوط والجلالقة وضعف أمر الروم وملكهم بعد الانتهاء إلى غايته شأن كل أمة ثم شغل الإفرنجة بما دهمهم متن العرب في الأندلس والجزائر بما كانوا يتخيمونهم ويرددون الصوائف إلى بسائطهم أيام عبد الرحمن الداخل وبنيه الأندلس وعبد الله الشيعي وبنيه بأفريقية وملكوا عليهم جزائر البحر الرومي التي كانت لهم مثل صقلية وميورقة ودانية وأخواتها إلى أن فشل ربح الدولتين وضعف ملك العرب فاستفحل الإفرنجة ورجعت لهم واسترجعوا ما ملكه المسلمون إلا قليلا بسيف البحر الرومي مضائق العرض في طول أربع عشرة مرحلة واستولوا على جزائر البحر كلها ثم سموا إلى الشام وبيت المقدس مسجد أنبيائهم ومطلع دينهم فسربوا إليه آخر المائة الخامسة وتواثبوا على الأمصار والحصون وسواحله ويقال: إن المستنصر العبيدي هو الذي دعاهم لذلك وحرضهم عليه لما رجى فيه من اشتغال ملك السلجوقية بأمرهم وإقامتهم سدا بينه وبينهم عندما سموا إلى ملك الشام ومصر وكان ملك الإفرنجة يومئذ اسمه بردويل وصهره زجار ملك صقلية من أهل طاعته فتظاهروا علة ذلك وساروا إلى القسطنطينية سنة إحدى وتسعين ليجعلوها طريقا إلى الشام فمنعهم ملك الروم يومئذ ثم أجازهم على أن يعطوه ملطية إذا ملكوها فقبلوا شرطه ثم ساروا إلى بلاد ابن قلطمش وقد استولى يومئذ على مرية وأعمالها وأرزن الروم وأقصر وسيواس وافتتح تلك الأعمال كلها عند هبوب ريح قومه على السلجوقية ثم حدثت الفتنة بينهم وبين الروم بالقسطنطينية واستنجد كل منهم بملوك المسلمين في ثغور الشام والجزيرة وعظمت الفتن في تلك الآفاق ودامت الحال على ذلك نحوا من مائة سنة وملك الروم بالقسطنطينية في تناقص واضمحلال وكان زجار صاحب صقلية يغزو القسطنطينية من البحر ويأخذ ما يجد في مرساها من سفن التجار وشواني المدينة ولقد دخل جرجي بن ميخاييل صاحب أسطوله إلى مينا القسطنطينية سنة أربع وأربعين وخمسمائة ورمى قصر الملك بالسهام فكانت تلك أنكى على الروم من كل ناحية.
ثم كان لاستيلاء الإفرنج على القسطنطينية آخر المائة السادسة وكان من خبرها أن ملك الروم بالقسطنطينية أصهر إلى الفرنسيس عظيم ملوك الإفرنج في أخته فزوجها له الفرنسيس وكان له منها ابن ذكر ثم وثب بملك الروم أخوه فسمله وملك القسطنطينية مكانه ولحق الابن بخاله الفرنسيس صريخا به على عمه فوجده قد جهز الأساطيل لارتجاع بيت المقدس واجتمع فيه ثلاثة من ملوك الإفرنجة بعساكرهم دوقس البنادقة صاحب المراكب البحرية وفي مراكبه كان ركوبهم وكان شيخا أعمى نقادا ذا ركب والمركس مقدم الفرنسيس وكيدفليد وهو أكبرهم فأمر الفرنسيس بالجواز على القسطنطينية ليصلحوا بين ابن أخته وبين عمه ملك الروم فلما وصلوا إلى مرسى القسطنطينية خرج عمه وحاربهم فهزموه ودخلوا البلد وهرب إلى أطراف البلد وقتل حاضروه وأضرموا النار في البلد فاشتغل الناس بها وأدخل الصبي بشيعته فدخل الإفرنج معه وملكوا البلد وأجلسوا الصبي في ملكه وساء أثرهم في البلد صادروا أهل النعم وأخذوا أموال الكنائس وثقلت وطأتهم على الروم فعقلوا الصبي وأخرجوهم واستدعوا ملكهم عم الصبي من مكان مقره وملكوه عليهم.
وحاصرهم الإفرنج فاستنجد بسليمان بن قليج أرسلان صاحب قونية وبلاد الروم شرقي الخليج وكان في البلد خلق من الإفرنج فقبل أن يصل سليمان ثاروا فيها وأضرموا النيران حتى شغل بها الناس وفتحوا الأبواب فدخل الإفرنج واستباحوا ثمانية أيام حتى أقفرت واعتصم الروم بالكنيسة العظمى منها وهي مموقيا ثم خرجت جماعة القسيسين والأساقفة والرهبان وفي أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم أجمعين ولم يراعوا لهم ذمة ولا عهدا ثم خلعوا الصبي واقترعوا ثلاثتهم على الملك فخرجت القرعة على كيدفليد كبيرهم فملكوه على القسطنطينية وما يجاورها وجعلوا لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل أقريطش ورودس وغيرهما وللمركيس مقدم الفرنسيس البلاد التي في شرقي الخليج ثم تغلب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري ودفع عنها الإفرنج وبقيت بيده واستولى بعدها على القسطنطينية وكان اسمه ميخاييل وفي كتاب المؤيد صاحب حماة أنه أقام ببعض الحصون ثم بنيت القسطنطينية وملكها وفر الإفرنج في مراكبهم وملك الروم وقتل الذي كان ملكا قبله وتوفي سنة إحدى وثمانين وستمائة وعقد معه الصلح المنصور قلاون صاحب مصر والشام لذلك العهد.
قال: وملك بعده ابنه ماند ويلقب الدوقس وشهرتهم جميعا اللشكري ثم انقرضت دولة بني قليج أرسلان وملك أعمالهم التتر كما نذكر في أخبارهم وبقي بني اللشكري ملوكا على القسطنطينية إلى هذا العهد وملك شرقي الخليج بعد انقضاء دولة التتر من بلاد الروم ابن عثمان جق أمير التركمان وهو الآن متحكم على صاحب القسطنطينية ومتغلب على نواحيه من سائر جهاته وهذا ما بلغنا من أخبار الروم من أول دولتهم منذ يونان والقياصرة لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.